الأربعاء، 7 أغسطس 2019

كيفية الوحي عند السيوطي

كيفية الوحي عند السيوطي
 
ذكر السيوطي في الإتقان كيفية الوحي بقوله:
وذكر العلماء للوحي كيفيات:
إحداها: أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر، سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل تحس بالوحي فقال: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض»، قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يبين له أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره، وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد وتهديد.
الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث في روعي» أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها، بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه.
الثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح: «وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».
الرابعة: أن يأتيه الملك في النوم، وعد من هذا قوم سورة الكوثر.
الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم، كما في حديث معاذ: «أتاني ربي فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى» الحديث.

.مناقشة فكرة الوحي:
من الطبيعي أن تخضع فكرة الوحي لمناقشات قوية بين المؤمنين والمعارضين، فالمؤيدون لفكرة الوحي والمعتقدون بهذه الظاهرة هم المؤمنون حقا، وهؤلاء لا يجدون صعوبة في قبول هذه الفكرة، لأنها لا تخرج عن إطار المفاهيم الإيمانية، والإنسان بفطرته لا يرفض الغيب، بل يجد في الغيب تفسيرا لكثير من المعاني والظواهر، فالغيب بالنسبة للمؤمن أمر ضروري لكمال الحياة ولا تستقيم الحياة المادية المشاهدة إلا بوجود عالم الغيب الذي يعيد التوازن في الحياة، ويفسر بعض مظاهرها، ويضبط مسارها، ويملأ ذلك الفراغ الثقيل في حياة البشر.
أما المنكرون لفكرة الوحي فهم يرفضون عالم الغيب، لأنه غير مشاهد، ويحتكمون للعقل، فما يثبته العقل من عالم الحس يثبتونه، وما ينكره العقل من عالم الروح ينكرونه، ولم يستطع العقل حتى الآن أن يقيم الدليل على عدم وجود عالم الروح، بل إن العقل في معظم الأحيان يسلم بوجود عالم غير محسوس، لا تراه الأبصار ولا تدركه العقول، إلا أنه لا يتصور الحياة بدونه، وتقوم أدلة وقرائن على وجوده، وفي كل يوم تتعزز الأدلة والقرائن على وجود عالم روحي أشمل من عالم المادة، وهو عالم غير محدود، يحيط بحياة الإنسان، ويفسر حركته الإنسانية.
ولو تأملنا قليلا في ظاهرة الغيب من خلال المنهج العقلي لوجدنا أن العقل لا يرفض هذه الظاهرة، ولا يستطيع إنكارها، وكلما رفض هذه الظاهرة لعدم قدرته على مشاهدتها وجد نفسه أمام آثار هذه الظاهرة وقرائن لا سبيل لإنكارها، تؤكد وجود عالم الغيب، وهو عالم الروح.
وتاريخ الأنبياء وقصصهم أصدق دليل على صدق ظاهرة النبوة، فلا يمكن بالقدرات البشرية المعتادة والمقاييس العقلية الكمية أن يحقق الأنبياء ما حققوه من معجزات إلا إذا سلمنا بصدق نبوتهم، وتعهد الله لهم بالرعاية والعناية، لكي يكتب لرسالتهم النجاح والتوفيق.
وظاهرة الوحي كما جاءت في كتب السيرة لا يمكن اعتبارها حالة ذاتية فردية ناتجة عن شعور قلق لدى محمد عند ما كان في غار حراء، ولو كانت كذلك لكانت مظاهرها واضحة، وكان المجتمع المكي يرقب الظاهرة بدقة، ويحاول أن يحاكمها من خلال معيار عقلي واضح، ولم يرفض ذلك المجتمع الظاهرة بالرغم من محاربته لما جاء به الوحي، ولم يعتبرها دالة على خلل في التكوين العقلي أو في التكوين النفسي، فلم تكن صورة محمد في أذهان قومه قبل البعثة معبرة عن ذلك الخلل، وكل الروايات التي جاءت في السيرة أكدت أن صورة محمد كانت في أعلى درجات الإشراف والكمال، فكان يثنى عليه في المجالس، ويحتكم إليه في المنازعات، ويؤخذ رأيه في موطن النصح والحكمة، ولما أمر بالدعوة، وجاء بالإسلام ودعا إلى نبذ ما كان عليه قومه من عبادة الأوثان، وتحركت القلوب تؤيده وتؤمن بما جاء به بدأت عواطف الكراهية والحسد تبرز ظاهرة معلنة عداءها للرسالة الجديدة، ولما تضمنته دعوة محمد من مبادئ وآراء وقيم.
ولا يمكن تصور الوحي الذي كان ينزل على محمد مجرد مشاعر وأحاسيس وتخيلات وأوهام أدت إليها عزلته الطويلة في غار حراء الموحش، وانصرافه عن الحياة الدنيا وتفرغه للعبادة وطاعة الله، واستغراقه في التأمل في مظاهر الحياة، ولو كان الوحي كذلك لما استطاع محمد في تلك اللحظات الشديدة المرهقة الثقيلة أن يتلو كلاما في أعلى درجات الفصاحة وأسمى أساليب البيان، متضمنا حكما عميقة، وحافلا بأخبار الأمم السابقة، ومتكاملا في معانيه وأفكاره.
إن ما نزل على (محمد) لم يكن أمرا مألوفا لدى قومه، ولو كان مما ألفوه في حالات بشرية مماثلة لما انصرفوا إلى محاربة (محمد)، ولما طاردوا أتباعه وأنصاره، ولما آمنوا به من بعد، لا شك أن الوحي كان مما اعترف العرب بصدقه، وأدركوا أنه منهج الأنبياء، وهم لم ينكروا الوحي فقد كانت قلوبهم مؤمنة بصدق محمد، وإنما أنكروا ما تضمنته الدعوة الدينية من إدانة ما كانوا قد ألفوه من عقائد وعادات وقيم ومعاملات، فالدعوة التي جاء بها محمد كانت تبشر بعالم جديد، وتنادي بإقامة مجتمع على أسس جديدة، لا تفاضل بين أفراده بسبب المال أو النسب أو المنزلة الاجتماعية، وإنما يقع التفاضل بالتقوى، والتقوى خلق لا يحسنه الأقوياء ولا يلتزم به معظم الأغنياء، ولا يألفه الطغاة ممن استكبروا في الأرض بغير الحق، وأقاموا سياجا من القيم الفاسدة تحمي نفوذهم وتبرز مظالمهم.
وجاء الوحي على مراحل، ووصفت السيدة عائشة رضي الله عنها كيف بدأ الوحي، وقبل الوحي كانت الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، وفي غار حراء جاءه الحق، ملك يخاطبه لأول مرة.
– اقرأ…. قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله.
– اقرأ… قال: ما أنا بقارئ، أخذه فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله.
– اقرأ… قال: ما أنا بقارئ.. أخذه فغطه الثالثة ثم أرسله.
– فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق].
ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، ودخل على خديجة بنت خويلد، قال لها والروع يطوقه ويحيط به: «زمّلوني زمّلوني» فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، وأخذ يحدث خديجة ويخبرها الخبر:
«يا خديجة.. لقد خشيت على نفسي».
قالت خديجة بلهجة المرأة الواثقة من زوجها المؤمنة بأن ما جاء به هو بداية رسالة، وأنه مقبل على عهد جديد لا عهد له به، ما كان يدري قبله ما الكتاب ولا الإيمان. (كلا… والله لا يخزيك الله أبدا.. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
لم يكن محمد يتوقع هذا الأمر، ولا يعرفه ولا يدري عنه شيئا.. وأنّى له أن يعلم، ومكة لم تكن دار علم ولا ثقافة، وأهلها لا يعلمون إلا القليل عن تاريخ الأنبياء والرسل.
{وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ويقف محمد حائرا خائفا وجلا… ويسمع من جديد ذلك الصوت الذي ما زال يسمعه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وينظر إلى خديجة وهي تقف إلى جانبه تشجعه وتقويه وتشد أزره، ما كان يرجو أن يلقى إليه الكتاب، وما كان يدري ما الكتاب والإيمان.
هل يمكن أن يكون ما رآه مجرد اختلاط وقع في وعيه، أو حلم نائم، وهل يمكن للأحلام أن تظل حية في الوجدان بعد أن يستيقظ النائمون، وهل يصح في نظر العقول أن يؤدي اختلاط العقول إلى حكمة تضاهي حكمة القرآن وإلى معجزة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها… ما أضيق نظر الحاقدين والحاسدين والموتورين وهم يتجاهلون حقائق لا تملك العقول إلا أن تقرّ بها.
لقد كانت ظاهرة الوحي واضحة الدلالة على صدق (محمد)، ذلك الرجل الأمي الذي عاش في مكة في أجواء بعيدة كل البعد عن معرفة أمر السماء غافلة كل الغفلة عن أمر النبوة، لا تعرف إلا القليل مما كان يتتبعه حكماء مكة عن تاريخ الأنبياء، وكل ذلك لا يرقى إلى مستوى المعرفة المستوعبة التي تمد (محمدا) بتاريخ الأمم السابقة وقصص الرسل والأنبياء.
ووقف (محمد) أمام الوحي وهو يتنزل عليه لأول مرة خائفا وجلا يترقب، لا يدري ماذا يفعل.. أهذا حق ما يراه، أهو حلم نائم أم طيف عابر.. ووقفت زوجته تشجعه وتشد أزره (والله ما يخزيك الله أبدا).
ما زال يتذكر ذلك الطيف وهو يخاطبه (اقرأ) فيجيب بخوف: «ما أنا بقارئ»، فيتكرر الأمر (اقرأ يا محمد)، ويجيب وكأنه يخشى من ذلك الجواب..
ما أنا بقارئ، ويأتيه الأمر من جديد (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} ويزول الطيف. ويبتعد.. ويترك (محمدا) وحيدا والهلع يأخذ منه كل مأخذ.
ويرتفع صوت بدأ هامسا، وأخذ يتردد في كيان (محمد) (والله ما يخزيك الله أبدا). ما أجمل ما فعلت هذه الكلمة في نفس (محمد)، أعادته إلى هدوئه، شعر بالأمن والدفء، أحس بفجر يطل من بعيد، إنه فجر صادق، والفجر الصادق لا يكذب أهله.
وأخذ (محمد) يستعيد أحداث حياته، طفولة قاسية، يتم ووحدة، مواقف صغيرة في حياته ما زال يذكرها، ولا يعرف تفسيرها.. طيف كان يلاحقه ويرعاه، لم يكن طيف أشباح وأوهام، إنما كان طيف رعاية واحتضان، يؤنسه في وحدته، يقويه ويغذي فؤاده بالأمل، ويقوده من حيث لا يدري إلى موطن الفضيلة، وتفتحت القلوب لذلك الشاب الصادق المستقيم الذي ما عهده قومه إلا أمينا صادقا وفيا وديعا حسن الخلق صافي النفس.
وأخذ الوحي يتردد، وبدأت الرسالة.
وتوقف الوحي فجأة، وأحس (محمد) بضيق شديد، ما بال الوحي الذي جاءه انقطع عنه، أيكون قد أخطأ فيما فعل. أيكون قد ضعف أمام جبريل، أيكون ربه قد ودعه وقلاه وهجره، كل ذلك كان يطوق مشاعر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقلق مضجعه.
وسرعان ما جاءه الوحي من جديد، مبشرا واعدا مطمئنا {وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى}، ويتهلل وجه الرسول، وينظر للملإ الأعلى نظرة شكر، ويدعو الله، ويتابع الوحي خطابه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} ولا حدود للعطاء، لأنه مرتبط بالرضى، والرضى نهاية ما يتطلع إليه الإنسان، وكلما تطلع لجديد أعطاه الله من جديد إلى أن يتحقق الرضى، في عطاء مستمر لا نهاية له.
وأخذ الوحي يطمئن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى} [الضحى]، كل ذلك من عطاء الله، والعطاء مستمر حتى يتحقق الرضى.
وبالرغم من كل ذلك، فإن الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تشعر في بعض المواقف بالخوف والوجل، وينتابها الفزع والهلع، وهي تحمل أمانة ثقيلة، ستواجه مجتمعا قويا قاسي الملامح متكافلا في دفاعه عن ذاته، ولن يسمح ذلك المجتمع لمحمد أن يتحداه برسالته الجديدة، ولا أن يدعو إلى تغيير ذلك المجتمع، ويتنزل القرآن منجما لكي يحقق غايتين:
الأولى: تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا}، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إلى هذا التثبيت المستمر الذي يجدد الأمل ويقوي النفس وبخاصة في مواقف قاسية لا تحتمل النفس قسوتها، وتكاد تفقد قدرتها على الصبر.
الثانية: مواكبة الوحي لحركة المجتمع الإسلامي الوليد، لكي يكون ذلك المجتمع في موطن الرعاية والاحتضان، فلا يضيق ذلك المجتمع بهمومه ومشاكله، وكلما ضاق به الأمر والتبس عليه السبيل وجد في الحي مرشدا وهاديا، فتطمئن القلوب بعد يأس، وتأنس بعد قلق ووحشة، وتواصل طريقها مطمئنة راضية مرضية، وكيف يمكن للقرآن أن ينزل مرة واحدة، ويتوقف الوحي، تاركا رسول الله تائها في خضم تحديات قاسية، لا يعرف كيف يواجهها، وهل كان يمكن للوحي أن يتنزل بتشريع تفصيلي في الأيام الأولى والمسلمون في محنة، تستهدف عقيدتهم وحياتهم، وهل كان يمكن للوحي أن يتحدث عن قضايا لم تقع بعد، فيجيب عنها.
لا شك أن الوحي كان عظيم الأثر في حياة المسلمين، كان الملهم والمرشد، والموجه والمعلم، وهنا تبرز شخصية (محمد) البشرية وهي تستقبل الوحي، ولا تملك تلك الشخصية إلا أن تمتثل لما تؤمر به، وهي لا تملك إلا أن تبلغ الرسالة، كما جاءت.
ويقف (محمد) صلى الله عليه وسلّم أمام قومه يسمع كلامهم الساخر، ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ويأتيه الوحي معلما ومجيبا: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
ولا يملك محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يدعي لنفسه شيئا، فهو بشر كسائر البشر في خلقه وتكوينه، وهو مكلف بما يكلف به غيره، إلا أنه يوحى إليه، والوحي هو الخصوصية التي خصه الله تعالى بها، وأكرمه بما خصه به، وجعله سيد المرسلين وخير الناس قاطبة، وأناط به مهمة الدعوة إلى الله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، لأن ذلك من اختصاص الخالق، والخالق هو الله، وما عداه فهو مخلوق، والمخلوق لا يملك لنفسه إلا ما أراده الخالق له: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ}.
ويقف المشركون حيارى لا يدرون ماذا يقولون، هل محمد مجنون، أم هو ساحر أو شاعر، واضطربت نفوسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فالمجانين لا يتحدون العقلاء فيما تميز به أولئك العقلاء وتفاخروا به، وتحداهم القرآن، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فلما عجزوا عن مواجهة التحدي نزل الوحي يؤكد عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
وانتصر الوحي بإذن الله، وحفظ الله القرآن، وأعز الله المسلمين بالإسلام، ورفع مكانتهم، وأقام لهم دولة وحضارة، وامتدت دولة القرآن في أمصار الأرض رافعة أعلام الإسلام، محررة الشعوب من الظلم والاستعباد، مقررة حقوق الإنسان، منتصرة لقيم الفضيلة، متحدية كل طغيان واستكبار، داعية إلى عبادة الله وحده، مؤكدة أن دين الحق لا يتحالف مع أعداء الحق، ولا يستسلم أمام جبروت القوة، ويتحدى أعداء الله والإنسان في كل مكان، لكي تظل الأرض موطنا آمنا يجد فيها الإنسان مستقره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كاس الاولياء